فصل: تفسير الآية رقم (61)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 44‏]‏

‏{‏قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏38‏)‏ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ‏(‏39‏)‏ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ‏(‏40‏)‏ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏41‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ‏(‏42‏)‏ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏43‏)‏ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

ولما أرادت بلقيس الخروج إلى سليمان، جعلت عرشها آخر سبعة أبيات، وغلّقت الأبواب، وجعلت عليه حُراساً يحفظونه، وبعثت إلى سليمان‏:‏ إني قادمة إليك؛ لأنظر ما الذي تدعو إليه، وشَخَصَتْ إليه في اثني عشر ألف قَيْل، تحت كل قيل ألوفٌ، فلما بلغت على رأس فرسخ من سليمان، ‏{‏قال يا أيها الملأُ أيُّكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين‏}‏، أراد أن يريها بذلك بعض ما خصه الله تعالى به، من إجراء العجائب على يده، مع إطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى، وعلى ما يشهد لنبوة سليمان‏.‏ أو‏:‏ أراد أن يأخذه قبل أن تتحصن بالإسلام، فلا يحل له، والأول أليق بمنصب النبوة، أو‏:‏ أراد أن يختبرها في عقلها، بتغييره، هل تعرفه أو تُنكره‏.‏

‏{‏فال عِفْريتٌ من الجن‏}‏، وهو المارد الخبيث، واسمه «ذكوان»، أو‏:‏ «صَخْر»‏:‏ ‏{‏أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك‏}‏ أي‏:‏ من مجلسك إلى الحكومة، وكان يجلس إلى تُسع النهار، وقيل‏:‏ إلى نصفه‏.‏ ‏{‏وإني عليه‏}‏؛ على حمله ‏{‏لقويُّ أمين‏}‏، آتي به على ما هو عليه، لا أغير منه شيئاً ولا أُبدله، فقال سليمان عليه السلام، أريد أعجل من هذا، ‏{‏قال الذي عنده علم من الكتاب‏}‏‏.‏ قيل هو‏:‏ آصف بن برخيا- وزير سليمان عليه السلام، كان عنده اسمُ الله الأعظم، الذي إذا سئل به أجاب‏.‏ قيل هو‏:‏ يا حيّ يا قيوم، أو‏:‏ يا ذا الجلال والإكرام، أو‏:‏ يا إلهنا وإله كل شيء، إلهاً واحداً، لا إله إلا أنت‏.‏ وليس الشأن معرفة الاسم، إنما الشأن أن يكون عين الاسم، أي‏:‏ عين مسمى الاسم، حتى يكون أمره بأمر الله‏.‏ وقيل‏:‏ هو الخضر، أو‏:‏ جبريل، أو‏:‏ ملك بيده كتاب المقادير، أرسل تعالى عند قول العفريت‏.‏ والأول أشهر‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏أنا آتيك به قبل أن يرتذَّ إليك طَرْفُك‏}‏ أي‏:‏ ترسل طرفك إلى شيء، فقبل أن ترده تُبصر العرش بين يديك‏.‏

رُوي‏:‏ أن آصف قال لسليمان‏:‏ مُدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمدّ عينيه، فنظر نحو اليمن، فدعا آصف، فغار العرش في مكانه، ثم نبع عند مجلس سليمان، بقدرة الله تعالى، قبل أن يرجع إليه طرفه‏.‏ ‏{‏فما رآه‏}‏ أي‏:‏ العرش ‏{‏مستقراً عنده‏}‏؛ ثابتاً لديه غير مضطرب، ‏{‏قال هذا‏}‏ أي‏:‏ حصول مرادي، وهو حضور العرش في مدة قليلة، ‏{‏من فضل ربي‏}‏ عليّ، وإحسانه إليّ، بلا استحقاق مني، بل هو فضل خالٍ من العوض، ‏{‏ليبلُوني‏}‏‏:‏ ليختبرني ‏{‏أأشكرُ‏}‏ نعمَه ‏{‏أم أكفرُ ومن شكَر فإنما يشكر لنفسه‏}‏؛ لأنه يقيد به محصولها، ويستجلب به مفقودها، ويحط عن ذمته عناء الواجب، ويتخلص من وصمة الكفران‏.‏ ‏{‏ومن كَفَرَ فإِن ربي غنيٌّ كريم‏}‏ أي‏:‏ ومن كفر بترك الشكر، فإن ربي غني عن شكره، كريم بترك تعجيل العقوبة إليه‏.‏

وفي الخبر‏:‏ «من شكر النعم فقد قيّدها بعقالها، ومن لم يشكر فقد تعرض لزوالها»‏.‏

وقال الواسطي‏:‏ ما كان مِنَّا من الشكر فهو لنا، وما كان منه من النعمة فهو إلينا، وله المنة والفضل علينا‏.‏ ه‏.‏

‏{‏قال‏}‏ سليمانُ عليه السلام لأصحابه‏:‏ ‏{‏نكِّروا لها عرشها‏}‏ أي‏:‏ غيّروا هيئته بوجه من الوجوه، ‏{‏ننظر أتَهْتَدِي‏}‏ لمعرفته، أو‏:‏ للجواب الصواب إذا سُئلت عنه، ‏{‏أم تكون من الذين لا يهتدون‏}‏ إلى معرفة عرشها‏.‏ أو إلى الجواب الصواب‏.‏

‏{‏فلما جاءتْ‏}‏ بلقيسُ سليمانَ عليه السلام، وقد كان العرش بين يديه، ‏{‏قيل‏}‏ من جهة سليمان، أو بواسطة‏:‏ ‏{‏أهكذا عرشُكِ‏}‏ ‏؟‏ ولم يقل‏:‏ أهذا عرشك؛ لئلا يكون تلقيناً، فيفوت ما هو المقصود من اختبار عقلها، وقد قيل لسليمان- لما أراد تزوجها-‏:‏ إن في عقلها شيئاً، فاختبرها بذلك‏.‏ ‏{‏قالت‏}‏- لما رأته-‏:‏ ‏{‏كأنه هو‏}‏ فأجابت أحسن جواب، فلم تقل‏:‏ هو هو، ولا‏:‏ ليس به، وذلك من رجاحة عقلها، حيث لم تقل‏:‏ هو هو مع علمها بحقيقة الحال، ولِمَا شبّهوا عليها بقولهم‏:‏ أهكذا عرشك شبهت عليهم بقولها‏:‏ ‏{‏كأنه هو‏}‏ مع أنها علمت بعرشها حقيقة، تلويحاً بما اعتراه بالتنكير من نوع مغايرة في الصفات مع اتحاد الذات، ومراعاة لحسن الأدب في محاورته عليه السلام‏.‏ ولو قالوا‏:‏ أهذا عرشك‏؟‏ لقالت‏:‏ هو‏.‏

ثم قالت‏:‏ ‏{‏وأُوتينا العلم‏}‏ بقدرة الله تعالى، وبصحبة نبوتك ‏{‏مِن قَبْلِها‏}‏؛ من قَبل هذا الأمر، أي‏:‏ من قبل المعجزة التي شاهدنا الآن، من أمر الهدهد، وبما سمعناه من المنذر من الآيات الدالة على ذلك، ‏{‏وكُنا مسلمين‏}‏؛ منقادين لك من ذلك الوقت، وكأنها ظنت أنه أراد عليه السلام اختبار عقلها، وإظهار المعجزة، لتؤمن به‏.‏ فأظهرت أنها آمنت به قبل وصولها إليه‏.‏ أو قال سليمان‏:‏ ‏{‏وأُوتينا العلم‏}‏ بالله تعالى وبكمال قدرته من قبل هذه الآية، ‏{‏وكنا مسلمين‏}‏؛ موحدين، أو‏:‏ ‏{‏وأُوتينا العلم‏}‏ بإسلامها ومجيئها طائعةً ‏{‏من قبل‏}‏ مجيئها، ‏{‏وكنا مسلمين‏}‏ موحّدين‏.‏

‏{‏وصدّها ما كانت تعبدُ من دون الله‏}‏، هو من كلام سليمان، أي‏:‏ وصدها عن العلم بما علمناه- أو‏:‏ عن التقدم إلى الإسلام- عبادةُ الشمس وإقامتها بين ظهرانيِّ الكفرة، أو‏:‏ من كلام تعالى، بياناً لما كان يمنعها من إظهار ما ادعته من الإسلام الآن، أي‏:‏ صدَّها عن ذلك عبادتُها القديمة للشمس، ‏{‏إنها كانت من قوم كافرين‏}‏ أي‏:‏ كانت من قوم راسخين في الكفر، ولذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها، وهو بين ظهرانيهم، حتى دخلت تحت ملكة سليمان عليه السلام، أو‏:‏ وصدها الله تعالى، أو‏:‏ سليمان، عما كانت تعبد من دون الله، فحذف الجار وأوصل الفعل‏.‏

‏{‏قيل لها ادْخلي الصَّرْحَ‏}‏ أي‏:‏ القصر، أو‏:‏ صحن الدار، ‏{‏فما رأته حسِبَتْهُ لُجَّةً‏}‏‏:‏ ماء عظيماً، ‏{‏وكشفتْ عن ساقيها‏}‏‏.‏

رُوي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها، فبُني له على طريقها قصر من زجاج أبيض، وأجرى من تحته الماء، وألقى فيه السمك وغيره، ووضع سريره في صدره، فجلس عليه، وعكف عليه الطير والجن والإنس‏.‏ وإنما فعل ليزيدها استعظاماً لأمره، وتحقيقاً لنبوته‏.‏ وقيل‏:‏ إن الجن كرهوا أن يتزوجها، فنفضي إليه بأسرارهم؛ لأنها كانت بنت جنّية‏.‏ وقيل‏:‏ خافوا أن يولد له منها ولد، فيجتمع له فطنة الجن والإنس، فيخرجون من مُلْكِ سليمان إلى مُلْكِ أشدّ منه، فقالوا له‏:‏ إن في عقلها شيئاً، وهي شَعْراء الساقين، ورِجْلها كحافر الحمار، فاحتبر عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليتعرف ساقيها ورِجلها فكشفت عنهما، فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً، إلا أنه شعراء وصرف يصره‏.‏ ثم ‏{‏قال‏}‏ لها ‏{‏إنه صرح مُمَرد‏}‏؛ مملس مستو‏.‏ ومنه‏:‏ الأمرد، للذي لا شعر في وجهه، ‏{‏من قواريرَ‏}‏؛ من الزجاج، وأراد سليمان تزوجها، فكره شعرها، فعملت له الشياطين النورة، فنكحها سليمان، وأحبها، وأقرها على ملكها، وكان يزورُها في الشهر مرة، فيقيم عندها ثلاثة ايام وولدت له، وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان عليه السلام، فسبحان من لا انقضاء لملكه‏.‏

رُوي أنه مُلِك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة‏.‏ ه‏.‏

ثم ذكر إسلامها، فقال‏:‏ ‏{‏قالت ربي إني ظلمتُ نفسي‏}‏ بعبادة الشمس، ‏{‏وأسلمتُ مع سُليمانَ‏}‏ تابعة له، مقتدية به، ‏{‏لله ربِّ العالمين‏}‏‏.‏ وفيه الالتفات إلى الاسم الجليل، ووصفه بربوبيته للعالمين؛ لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى، وتفرده باستحاق العبادة، وربوبيته لجميع الموجودين، التي من جملتها‏:‏ ما كانت تعبد قبل ذلك من الشمس‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ عرش النفس الذي تستقر عليه هو الدنيا، فمن أحب الدنيا وركن إلى أهلها، فقد أجلس نفسه على عرشها، وصيَّرها مالكه له، متصرفة فيه بما تُحب، ومن أبغض الدنيا وزهد في أهلها، فقد هدم لها عرشها، وصارت خادمة مملوكة له، يتصرف فيها كيف يشاء‏.‏ فيقول الداعي إلى الله- وهو من أهَّله الله للتربية- للمريدين‏:‏ أيكم يأتيني بعرشها، ويَخرج عنها لله في أول بدايته‏؟‏ فمنهم من يأتي بها بعد مدة، ومنهم من يأتي بها أسرع من طرفة، على قدر القوة والعزم والصدق في الطلب، ومن أتى بعرش نفسه، وخرج عنها لله، فهو الذي آتاه الله علماً من الكتاب، وعرف مدلوله ومقصوده، لكن من السياسة أن يتدرج المريدُ في تركها شيئاً فشيئاً، حتى يخرج عنها، أو يغيب عن شغلها بالكلية، وإن كانت بيده‏.‏ فاما خرجوا عن عرش نفوسهم لله، وتوجهوا إليه، ورأى ذلك منهم، قال‏:‏ هذا من فضل ربي، حيث وقعت الهداية على يدي، ليبلوني أشكر أم أكفر‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ قال نكروا لها عرشها، أي‏:‏ اعرضوا عليها الدنيا، وأرُوها عرشها التي كانت عليه، متغيراً عن حاله الأولى- لأنه كان معشوقاً لها، والآن صار ممقوتاً، لغناها بالله- ننظر أتهتدي إليه، وترجع إلى محبته، فيكون علامة على عدم وصولها، أم تكون من الذين لا يهتدون إليه أبداً، فتكون قد تمكنت من الأنس بالله، فلما جاءت وأظهر لها عرشها اختباراً، قيل‏:‏ أهكذا عرشك‏؟‏ قالت‏:‏ كأنه هو، وأوتينا العلم بالله من قبل هذه الساعة، وكنا منقادين لمراده، فلن نرجع إلى ما خرجنا عنه لله أبداً‏.‏

وصدّها عن الحضرة ما كانت تبعد من الهوى، من دون محبة الله، إنها كانت من قوم كافرين، منكرين للحضرة، غير عارفين بها‏.‏ قيل لها حين رحلت عن عرشها‏:‏ ادخلي دار الحضرة، فلما رأت بحر الوحدة يتموج بتيار الصفات دهشت وحسبته لُجةً يغرق صاحبه في بحر الزندقة، قال لها رئيس البحرية- وهو شيخ التربية‏:‏ إنه بحر منزه متصل، لا أول له، ولا آخر له‏.‏ ليس مثله شيء، ولا معه شيء، محيط بكل شيء، وماحٍ لكل شيء‏.‏ ثم اعترفت أنها ظالمة لنفسها، مشغولة بهواها، قبل أن تعرف هواه، فلما عرفته غابت عن غيره، واستسلمت وانقادت له‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏ولقد أرسلنا‏)‏‏:‏ عطف على ‏(‏ولقد آتينا داود‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ الله ‏{‏لقد أرسلنا إلى ثمودَ أخاهم‏}‏ نسباً ‏{‏صالحاً أن اعبدوا الله‏}‏ أي‏:‏ بأن اعبدوه وحده، ‏{‏فإذا هم فريقان يختصمون‏}‏ أي‏:‏ ففاجؤوا التفرق والاختصام، ففريق مؤمن به، وفريق كافر، أو يختصمون فيه، فكل فريق يقول‏:‏ الحق معي‏.‏ وقد فسر هذا الاختصام قوله تعالى في الأعراف‏:‏ ‏{‏قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الذين استكبروا إِنَّابالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 75- 76‏]‏ ‏{‏قال‏}‏ عليه السلام للفريق الكافر، بعد ما شاهد منهم ما شاهد؛ من نهاية العتو والعناد، حتى استعجلوا العذاب‏:‏ ‏{‏يا قوم لِمَ تستعجلون بالسيئة‏}‏؛ بالعقوبة السيئة ‏{‏قبلَ الحسنة‏}‏ أي‏:‏ التوبة الصالحة، فتؤخرونها إلى حين نزولها، حيث كانوا- من جهلهم وغوايتهم يقولون، إن وقع العذاب تُبنا حينئذٍ، وإلا فنحن على ما كنا عليه‏.‏ أو‏:‏ لِمَ تستعجلون بالعذاب قبل الرحمة، أو‏:‏ بالمعصية قبل الطاعة، ‏{‏لولا تستغفرون الله‏}‏‏:‏ هلا تطلبون المغفرة من كفركم بالتوبة والإيمان قبل نزوله، ‏{‏لعلكم تُرْحَمون‏}‏ بالإجابة قبل النزول، إذ لا قبول بعده، ‏{‏قالوا اطَّيَّرنا بك‏}‏؛ تشاءمنا بك ‏{‏وبمن معك‏}‏ من المؤمنين؛ لأنهم قُحِطوا عند مبعثه؛ لكفرهم، فنسبوه إلى مجيئه‏.‏ والأصل‏:‏ تطيرنا‏.‏ وقرئ به، فأدغمت التاء في الطاء، وزيدت ألف وصل، للسكون‏.‏

‏{‏قال‏}‏ صالح عليه السلام‏:‏ ‏{‏طائِرُكُم عند الله‏}‏ أي‏:‏ سببكم الذي به ينالكم ما ينالكم من الخير والشر عند الله، وهو قدره وقضاؤه، أو‏:‏ عملكم مكتوب عند الله، فمنه نزل بكم ما نزل، عقوبة لكم وفتنة‏.‏ ومنه‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 13‏]‏ أي‏:‏ ألزمناه جزاء عمله، أو‏:‏ ما قدر له في عنقه، وأصله‏:‏ أن المسافر كان إذا مرّ بطائر يزجره، فإن مر إلى جهة اليمين تيمن، وإن مر إلى ناحية الشمال تشاءم، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته، أو‏:‏ من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة، ‏{‏بل أنتم قوم تُفتَنون‏}‏‏:‏ تختبرون بتعاقب السراء والضراء، أو‏:‏ تعذبون، أو‏:‏ يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة‏.‏ قال- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «لا عدوى ولا طِيَرة» وقال أيضاً‏:‏ «إذا تطيرت فلا ترجع» والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ سَير أهل التربية مع أهل زمانهم كسير الأنبياء مع أممهم، إذا بعثهم الله إلى أهل زمانهم اختصموا فيهم، ففريق يصدق وفريق يكذب، فيطلبون الكرامة والبرهان، ويتطيرون بهم وبمن تبعهم، إن ظهرت بهم قهرية من عند الله، كما رأينا ذلك كله‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 53‏]‏

‏{‏وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏48‏)‏ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏50‏)‏ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وكان في المدينة‏}‏؛ مدينة ثمود وهي الحجر، ‏{‏تسعةُ رَهْطٍ‏}‏ أي‏:‏ أشخاص، وهو جمع لا واحد له، فلذا جاز تمييز التسعة به، فكأنه قيل‏:‏ تسعة أنفس، وهو من الثلاثة إلى العشرة، وكان رئيسهم «قدار بن سالف» وهم الذين سعوا في عقر الناقة، وكانوا أبناءَ أشرافهم ومن عتاتهم، ‏{‏يُفسدون في الأرض‏}‏ أي‏:‏ في المدينة، إفساداً لا يخالطه شيء من الصلاح أصلاً، ‏{‏ولا يُصلِحُون‏}‏ يعني إن شأنهم الإفساد المحض، الذي لا صلاح معه‏.‏ وعن الحسن‏:‏ يظلمون الناس، ولا يمنعون الظالمين عن الظلم‏.‏ وعن ابن عطاء‏:‏ يتبعون معايب الناس، ولا يسترون عوراتهم‏.‏

‏{‏قالوا تقاسموا بالله‏}‏‏:‏ استئناف لبيان بعض فسادهم‏.‏ و‏(‏تقاسموا‏)‏‏:‏ إما أمر مقول لقالوا، أي‏:‏ تحالفوا أمر بعضهم بعضاً بالقسم على قتله‏.‏ وإما خبر حال، أي‏:‏ قالوا متقاسمين‏.‏ ‏{‏لنُبَيِّتَنَّهُ‏}‏‏:‏ لنقتلنه بياتاً، أي‏:‏ ليلاً، ‏{‏وأهلَه‏}‏‏:‏ ولده ونساءه، ‏{‏ثم لنقولن لِوَلِيِّه‏}‏ أي‏:‏ لوليّ دمه‏:‏ ‏{‏ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أهله‏}‏ أي‏:‏ ما حضرنا هلاكهم، أو‏:‏ وقت هلاكهم‏.‏ أو‏:‏ مكانه فضلاً أن نتولى إهلاكهم، ‏{‏وإِنا لصادقون‏}‏ فيما ذكرناه‏.‏ وهو إما من تمام المقول، أو‏:‏ حال، أي‏:‏ نقول ما نقول والحال أنا صادقون في ذلك؛ لأن الشاهد للشيء غير المباشر له عرفاً‏.‏ ولأنا ما شهدنا مهلك أهله وحده، بل مهلكه ومهلككم جميعاً، كقولك‏:‏ ما رأيت ثمَّ رجلاً، أي‏:‏ بل رجلين‏.‏ ولعل تحرجهم من الكذب في الأَيْمان مع كفرهم؛ لِما تعودوا من تعجيل العقوبة للكاذب في القسامة كما كان أهل الشرك مع البيت الحرام في الجاهلية‏.‏ وكان تقاسمهم بعد أن أنذرهم بالعذاب، وبعد قوله‏:‏ ‏{‏تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 65‏]‏‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومكروا مكراً‏}‏ بهذه المواضع، ‏{‏ومكرنا مكراً‏}‏؛ أهلكناهم إهلاكاً غير معهود، ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ أي‏:‏ من حيث لا يحتسبون، فمكرهم هو ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح عليه السلام وأهله‏.‏ ومكر الله‏:‏ إهلاكهم من حيث لا يشعرون‏.‏ ‏{‏فانظر كيف كان عاقبةُ مكرهم‏}‏ أي‏:‏ فتفكر في أنه كيف كان عاقبة مكرهم‏.‏ فسره بقوله‏:‏ ‏{‏أنَّا دمرناهم‏}‏‏:‏ أهلكناهم بالصيحة ‏{‏وقومَهم‏}‏ الذين لم يكونوا معهم في التبييت ‏{‏أجمعين‏}‏‏.‏ رُوي أنه كان لصالح مسجد في شِعْبٍ يُصلِّي فيه‏.‏ فقالوا‏:‏ زعم صالح يفرغ منا إلى ثلاث، وقد رأى علامة ذلك، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فخرجوا إلى الشعب، وقالوا‏:‏ إذا جاء يصلي قتلناه، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم، فبعث الله تعالى صخرة من الهَضب التي حِيالهم، فبادروا، فأطبقت الصخرة عليهم فم الشعب، فلم يدر قومهم أين هم، ولم يدروا ما فُعِل بقومهم، وعذَّب الله كلاً في مكانه ونجى صالحاً ومن معه‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ أرسل الله الملائكة ليلاً، فامتلأت بهم دار صالح، فأتى التسعة إلى دار صالح، شاهرين السيوف، فقتلهم الملائكة بالحجارة يرون الحجارة، ولا يرون رامياً‏.‏

ه‏.‏ ويمكن الجمع بأن بعضهم مات تحت الصخرة، وبعضهم أتى إلى دار صالح فقتل‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فتلك بُيوتُهمْ خاويةً‏}‏؛ ساقطة متهدمة، من‏:‏ خوى النجم‏:‏ إذا سقط‏.‏

أو‏:‏ خالية من السكان، ‏{‏بما ظلموا‏}‏؛ بسبب ظلمهم‏.‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي‏:‏ فيما ذكر من التدمير العجيب ‏{‏لآيةً لقوم يعلمون‏}‏ قدرتنا، فيتعظون‏.‏

‏{‏وأنجينا الذين آمنوا‏}‏ أي‏:‏ صالحاً ومن معه من المؤمنين، ‏{‏وكانوا يتقون‏}‏ الكفر والمعاصي، اتقاء مستمراً، ولذلك نجوا مع صالح‏.‏ قال مقاتل‏:‏ لما وقت لهم صالح العذاب إلى ثلاث، خرج أول يوم على أبدانهم مثل الحمّص أحمر، ثم اصفر من الغد، ثم اسود من اليوم الثالث‏.‏ ثم تفقأت، وصاح جبريل في خلال ذلك، فخمدوا، وكانت القرية المؤمنة الناجية أربعة آلاف، خرج بهم صالح إلى حضرموت، فلما دخلها مات صالح، فسميت حضرموت‏.‏ ه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ وكان في مدينة القلب تسعُ علل، يُفسدون فيها ولا يُصلحون، وهي حب الدنيا، وحب الرئاسة، والحسد‏.‏ والكبر، والحقد، والعجب، والرياء، والمداهنة، والبخل، هم أفسدوا قلوب الناس، وتقاسموا على هلاكها، ومكروا بهم حتى زيَّنوا لهم سوءَ عملهم، ومكر الله بهم، فدفعهم ودمَّرهم عن قلوب الصالحين، فتلك بيوتهم خاوية منها، أخرجهم منها، بسبب ظلمهم لها‏.‏

وقال القشيري على قوله‏:‏ ‏{‏ومكروا مكراً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ مَكْرُ اللهِ‏:‏ جزاؤهم على مَكْرِهم، بإخفاء ما أراد منهم من العقوبة، ثم إحلالها بهم بغتةً‏.‏ ه‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ حقيقة المكر‏:‏ امتناع سر الأزلية عن مطالعة الخليقة، فإذا كان كذلك من ينجو من مَكْره، والحديث لا يطلع على سوابق علمه في القِدم، فمَكْره وقهره صفتان من صفاته، لا تفارقان ذاته، وذاته أبدية، انظر تمامه‏.‏ قلت‏:‏ ومعنى كلامه‏:‏ أن مكر الله في الجملة‏:‏ هو إخفاء السر الأزلي- وهو القضاء والقدر- عن مطالعة الخلق، فلا يدري أحد ما سبق له في العلم القديم، وإذا كان كذلك فلا ينجو أحد من مكره؛ إذ الحدث لا يطلع على سوابق العلم القديم، إلا من اطلع عليه بوحي، كالأنبياء، أو بنص صريح منهم، كالمبشرين بالجنة، ومع ذلك‏:‏ العارف لا يقف مع وعد ولا وعيد؛ إذ قد يتوقف على شرط وأسباب خفية، ولذلك قيل‏:‏ العارف لا يسكن إلى الله‏.‏ قاله في لطائف المنن، أيّ‏:‏ لا يسْكُن إلى وعد الله ولا وعيده، فلا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره‏.‏

وقال القشيري- على قوله‏:‏ ‏{‏فتلك بيوتهم خاوية‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، في الخبر‏:‏ «لو كان الظلم بيتاً في الجنة لسلط الله عليه الخراب» ه‏.‏ قلت‏:‏ فكل من اشتغل بظلم العباد، فعن قريب ترى دياره بلاقع، كما هو مجرب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 58‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏54‏)‏ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏55‏)‏ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏56‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏57‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏ولوط‏)‏‏:‏ عطف على ‏(‏صالحا‏)‏ داخل معه في القسم، أي‏:‏ ولقد أرسلنا صالحاً ولوطاً‏.‏ و‏(‏إذ قال‏)‏‏:‏ ظرف للإرسال، أو‏:‏ منصوب باذكر، و‏(‏إذ قال‏)‏‏:‏ بدل من ‏(‏لوط‏)‏‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ لقد أرسلنا ‏{‏لوطاً‏}‏، أو‏:‏ واذكر لوطاً ‏{‏إِذْ قال لقومه‏}‏ أي‏:‏ وقت قوله لهم‏:‏ ‏{‏أتأتونَ الفاحشةَ‏}‏ أي‏:‏ الفعلة المتناهية في الفُحش والسماجة، ‏{‏وأنتم تبصرون‏}‏ أي‏:‏ الحالة أنكم تعلمون علماً يقينياً أنها فاحشة، لم تُسبَقوا إليها‏.‏ والجملة الحالية تفيد تأكيد الإنكار، فإنَّ تعاطيَ القبيح من العالم بقُبحه أقبح وأشنع، ولذلك ورد في الخبر‏:‏ «أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامةِ عَالِمٌ لم ينْفَعْهُ الله بعلْمِه»‏.‏ وقال الفخر‏:‏ لا تصدر المعصية من العالم قط وهو عالم، وحين صدورها منه هو جاهل؛ لأنه رجح المرجوح وترجيح المرجوح جهل، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏بل أنتم قوم تجهلون‏}‏‏.‏ ه‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «لا يَزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» إذ لو صدّق بإطلاع الحق عليه ما قدر على الزنى، لكنه جهل ذلك‏.‏ و‏{‏تُبصرون‏}‏، من‏:‏ بصر القلب‏.‏ وقيل‏:‏ يُبصر بعضُكم بعضاً؛ لأنهم كانوا يرتكبونها في ناديهم، معلنين بها، لا يستتر بعضهم من بعض، مَجانةً وانهماكاً في المعصية، أو‏:‏ تُبصرون آثار العصاة قبلكم، وما نزل بهم‏.‏

‏{‏أئنكم لتَأْتون الرجالَ شهوةً‏}‏ أي‏:‏ للشهوة ‏{‏من دون النساء‏}‏ أي‏:‏ إن الله تعالى إنما خلق الأنثى للذكر، ولم يخلق الذكر للذكر، ولا الأنثى للأنثى، فهي مضادة للهِ تعالى في حكمته، فلذلك كانت أشنع المعاصي، ‏{‏بل أنتم قوم تجهلون‏}‏؛ تفعلون فعل الجاهلين بقُبحها، أو‏:‏ تجهلون العاقبة‏.‏ أو‏:‏ بمعنى السفاهة والمجون، أي‏:‏ بل أنتم سُفهاء ماجنون‏.‏ والتاء فيه- مع كونه صفة لقوم؛ لكونهم في حيز الخطاب‏.‏ وكذا قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 47‏]‏، غلّب الخطاب على الغيبة‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ «بل» للانتقال، والانتقال في باب الذم إنما يكون عن أمر خفيف إلى ما هو أشد منه، وتقرير الأشدّية هنا‏:‏ أن المضروب عنه راجع للقوة الحسية العملية، وهي منقطعة تنقضي بانقضاء ذلك الفعل والثاني راجع للقوة العلمية وهي دائمة؛ لأن العلم بالشيء دائم، والعمل به منقطع غير دائم‏.‏ ه‏.‏

‏{‏فما كان جوابَ قومه‏}‏ حين نهاهم عن تلك الفاحشة ودعاهم إلى الله، ‏{‏إلا أن قالوا أَخْرِجوا آلَ لوط‏}‏ أي‏:‏ لوطاً ومتبعيه ‏{‏من قريتكم إنهم أُناس يتطهرون‏}‏؛ يتنزهون عن أفعالنا، أو‏:‏ عن القاذورات، ويعدون فعلنا قذراً‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ إنه استهزاء، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 87‏]‏‏.‏

‏{‏فأنجيناه‏}‏‏:‏ فخلّصناه من العذاب الواقع بالقوم، ‏{‏وأهلَه إلا امرأتَه قدرناها‏}‏ بالتشديد والتخفيف، أي‏:‏ قدرنا أنها ‏{‏من الغابرين‏}‏؛ الباقين في العذاب‏.‏ ‏{‏وأمطرنا عليهم مطراً‏}‏ غير معهود؛ حجارة مكتوب عليها اسم صاحبها، ‏{‏فساءَ‏}‏‏:‏ قَبُحَ ‏{‏مطرُ المنذَرِينَ‏}‏ الذين لم يقبلوا الإنذار‏.‏ وقد مرّ كيفية ما جرى بهم غير مرة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ما أنكر لوط على قومه إلا غلبة الشهوة على قلوبهم، والانهماك في غفلتهم، فرجعت إلى معصية القلوب، وهي أشد من معصية الجوارح؛ لأن معصية الجوارح إذا صحبتها التوبة والانكسار، عادت طاعة، بخلاف معصية القلوب؛ فإنها تنطمس بها أنوار الغيوب، فلا يزيد صاحبها إلا البُعد والطرد‏.‏ والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏

‏{‏قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏ أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ لنبيه- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ ‏{‏قل الحمدُ لله‏}‏ على ما أنعم به عليك من فنون النعم، ومن جملتها‏:‏ اطلاعك على أسرار علم غيوبه، ‏{‏وسلامٌ على عباده الذين اصطفى‏}‏ لرسالته‏.‏ وقال ابن عباس وسفيان‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، اصطفاهم بصحبته- عليه الصلاة والسلام- وقال الكلبي‏:‏ هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، اصطفاهم الله لمعرفته وطاعته‏.‏ ثم قل لهم إلزاماً للحجة‏:‏ ‏{‏الله خير أما تشركون‏}‏ أي‏:‏ آلله الذي ذكرت شؤونه العظيمة خير، أم ما تشركونه معه تعالى من الأصنام‏؟‏ ومرجع الترديد إلى التعرض بتبكيت الكفرة، وتسفيه آرائهم الركيكة، والتهكم بهم، إذ من البيِّن أن ليس فيما أشركوه به تعالى شائبة خير، حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من لا خير إلا خيره، ولا إله غيره‏.‏

وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال‏:‏ «بلِ الله خيْرٌ، وأَبْقَى، وأجلُّ، وأكْرَم»‏.‏

ثم عدَّد سبحانه الخيرات والمنافع، الدالة على انفراده بالخيرية، فقال‏:‏ ‏{‏أمّن خَلَق السماواتِ والأرضَ‏}‏، «أم» هنا‏:‏ منقطعة، بخلاف ‏{‏أمَّا تشكرون‏}‏ أي‏:‏ بل أمّن خلق العالم العلوي والسفلي، وأفاض من كل واحد ما يليق به من الخيرات، خير، أم جماد لا يقدر على شيء‏؟‏ فمن‏:‏ مبتدأ، وخبرها‏:‏ محذوف مع «أم» المعادلة للهمزة، كما قررنا‏.‏

‏{‏وأنزل لكم من السماء ماءً‏}‏‏.‏ مطراً ‏{‏فأنبتنا‏}‏، التفت من الغيبة إلى التكلم؛ تأكيداً لمعنى اختصاص الفعل به تعالى، وإيذاناً بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان، والطعوم والأشكال، مع بهجتها، بماء واحد، لا يقدر عليه غيره، أي‏:‏ فأخرجنا ‏{‏به حدائقَ‏}‏‏:‏ بساتين، فالحديقة‏:‏ بستان عليه حائط، من‏:‏ الإحداق، وهو الإحاطة، ‏{‏ذاتَ بهجةٍ‏}‏ أي‏:‏ ذات حُسن ورونق، تبتهج به النظار، ولم يقل‏:‏ ذوات‏:‏ لأن المعنى‏:‏ جماعة حدائق، كما تقول‏:‏ النساء ذهبت‏.‏ ‏{‏ما كان لكم‏}‏؛ ما صح وما أمكن لكم ‏{‏أن تُنبتوا شجرها‏}‏ فضلاً عن ثِمارها وسائر صفاتها البديعة المبهجة، ‏{‏أَإِلهٌ مع الله‏}‏ ‏؟‏ أي‏:‏ أإله كائن مع الله، الذي ذكرت أفعاله، التي لا يقدر عليها غيره، حتى يُتوهم جعله شريكاً له تعالى في العبادة‏؟‏ أو‏:‏ أإله مع الله يفعل ذلك‏؟‏ ‏{‏بل هم قوم يَعْدِلون‏}‏‏:‏ بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية، والانحراف عن الاستقامة في كل أمر من الأمور، فلذلك يفعلون ما يفعلون من الإشراك والجرائم، أو‏:‏ يعدلون به غيره فيُشركونه معه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قل الحمد لله، الذي كشف الحجب عن قلوب أوليائه، وسلام على عباده الذين اصطفاهم لحضرته، آلله خير، أي‏:‏ أشهود الله وحده في الوجود خير، أم شهود الغير معه‏؟‏، فتشركون في توحيدكم‏.‏ أمن خلق سموات أرواحكم، وهيأها لشهود الربوبية، وخلق أرض نفوسكم، وهيأها لآداب العبودية، وأنزل لكم من سماء الغيوب ماء الواردات الإلهية، فأنبتنا به في قلوب العارفين بساتين المعرفة، ذات بهجة ونزهة‏؟‏ ما كان لكم، وفي طوقكم، أن تُنبتوا في قلوبكم شجر المعرفة، ولا ثمار المحبة، أإله مع الله يمنّ عليكم بذلك‏؟‏‏.‏ بل هم قوم يعدلون عن طريق الوصول إلى هذه البساتين البهية؛ لأنها محفوفة بالمكاره النفسية، لا يقدر على سلوكها إلا الشجعان، أهل الهمم العلية‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أمَّن جعلَ الأرضَ قراراً‏}‏ أي‏:‏ قارة ثابتة، ليستقر عليها الإنسان والدواب، بإظهار بعضها من الماء، ودحوها وتسويتها، حسبما يدور عليه منافعهم‏.‏ ‏{‏وجعل خلالها‏}‏؛ أواسطها ‏{‏أنهاراً‏}‏ جارية ينتفعون بها، ‏{‏وجعل لها رواسيَ‏}‏ أي‏:‏ جبالاً ثوابت، تمنعها أن تميد بأهلها، ولتتكون فيها المعادن، وينبع من حضيضها المنابع‏.‏ ‏{‏وجعل بين البحرين‏}‏ أي‏:‏ العذب والمالح، أو‏:‏ خليجي فارس والروم ‏(‏حاجزاً‏)‏؛ برزخاً مانعاً من المعارجة والمخالطة، ‏{‏أإله مع الله‏}‏ في الوجود، أو‏:‏ في إبداع هذه البدائع‏؟‏ ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏ شيئاً من الأشياء، ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره‏.‏

الإشارة‏:‏ أم من جعل أرض النفوس قراراً، لتستقر عليها أحكام العبودية، وتتصرف فيها أقدار الربوبية، وجعل خلالها أنهاراً من علوم الشرائع، وما يتعلق بعالم الحكمة من الحِكَم والأحكام، وجعل لها جبالاً من العقل لتعرف صانعها ومدبرها، وجعل بين بحر الحقيقة والشريعة حاجزاً وبرزخاً، وهو نور العقل‏؟‏ فما دام العقل صاحياً ميّز بين الحقيقة والشريعة، فيلزمه التكليف، ويعطي كل ذي حق حقه‏.‏ فإذا سكر وغاب نوره سقط التكليف‏.‏ وقد تُشرق على نور قمر العقل شمسُ العرفان، فتغطيه مع وجود صحوه، فيميز بين الحقائق والشرائع، وتكون عبادته أدباً وشكراً‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الاضطرار‏:‏ الافتعال من الضرورة، وهي الحاجة المحوجة إلى اللجأ، يقال‏:‏ اضطره إلى كذا، واسم الفاعل والمفعول‏:‏ مضطر، ويختلف التقدير‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ يُجيبُ المُضْطَّر إِذا دعاه‏}‏، وهو من نزلت به شدة من شدائد الزمان، ألجأته إلى الدعاء والتضرع، كمرض، أو فقر، أو نازلة من نوازل الدهر ونوائبه، أو‏:‏ المذنب إذا استغفر مبتهلاً، أو‏:‏ المظلوم إذا دعا، أو‏:‏ من رفع يديه ولم ير لنفسه حسنة يرجو بها القبول غير التوحيد، وهو منه على خطر، فهذه أنواع المضطر‏.‏

وإجابة دعوته مقيدة بالحديث‏:‏ «الدّاعِي عَلَى ثَلاث مراتب، إما أن يُعجل له ما طلب، وإما أن يدخر له أفضل منه، وإما يدفع عنه من السوء مثله» وأيضاً‏:‏ إذا حصل الاضطرار الحقيقي حصلت الإجابة قطعاً، إما بعين المطلوب، أو بما هو أتم منه، وهو الرضا والتأييد‏.‏ ‏{‏ويكشفُ السُوءَ‏}‏ وهو الذي يعتري الإنسان مما يسؤوه، كضرر أو جَور، ‏{‏ويجعَلُكم خُلفاءَ الأرض‏}‏ أي‏:‏ خلفاء فيها، تتصرفون فيها كيف شئتم، بالسكنى وغيره، وراثة عمن كان قبلكم من الأمم، قرناً بعد قرن‏:‏ أو‏:‏ أو أراد بالخلافة الملك والتسلط‏.‏ ‏{‏أإله مع الله‏}‏ الذي يفيض على الخلق هذه النعام الجسام، يمكن أن يعطيكم مثلها‏؟‏ ‏{‏قليلاً ما تذكَّرون‏}‏ أي‏:‏ تذكراً قليلاً، أو‏:‏ زماناً قليلاً تتذكرون فيه‏.‏ و«ما»‏:‏ مزيدة، لتأكيد معنى القلة، التي أريد بها العدم، أو‏:‏ ما يجري مجراه في الحقارة وعدم الجدوى‏.‏ وتذييل الكلام بنفي عدم التذكر منهم إيذان بأن وجود التذكر مركوز في ذهن كل ذكي، وأنه من الوضوح بحيث لا يتوقف إلا على التوجه إليه وتذكره‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الاضطرار الحقيقي الذي لا تتخلف الإجابة عنه في الغالب‏:‏ وهو أن يكون العبد في حال شدته كالغريق في البحر وحده، لا يرى لغياثه غير سيده‏.‏ وقال ذو النون‏:‏ هو الذي قطع العلائق عما دون الله‏.‏ وقال سهل بن عبد الله‏:‏ هو الذي رفع يديه إلى الله تعالى داعياً، ولم تكن له وسيلة من طاعة قدّمها‏.‏ ه‏.‏ بل يقدم إساءته بين يديه، ليكون دعاؤه بلا شيء يستحق عليه الإجابة، إلا من محض الكرم‏.‏

قال القشيري‏:‏ يقال للجناية‏:‏ سراية، فَمَن كان في الجناية مختاراً، فليس يسلم له دعوى الاضطرار عند سراية جرمه الذي سلف، وهو في ذلك مختار، فأكثر الناس أنهم مضطرون، وذلك الاضطرار سراية ما بَرَزَ منهم في حال اختيارهم، وما دام العبد يتوهم من نفسه شيئاً من الحَوْلِ والحِيل، ويرى لنفسه شيئاً من الأسباب يعتمد عليه، ويستند إليه، فليس بمضطر، إلا أن يرى نفسه كالغريق في البحر، والضَّالِّ في المتاهة‏.‏ والمضطر يرى غِيَاثه بيد سَيِّدهِ، وزِمَامَه في قبضته، كالميت في يد غاسِله، ولا يرى لنفسه استحقاقاً في أن يجاب، بل اعتقاده في نفسه أنه من أهل السخط، ولا يقرأ اسمه في ديوان السعادة، ولا ينبغي للمضطر أن يستعين بأحدٍ في أن يدعو له؛ لأن الله وَعَدَ الإجابة له؛ لا من يدعو له‏.‏

ه‏.‏ وبحث معه المحشي الفاسي في بعض ألفاظه، فانظره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويكشف السُوء‏}‏‏:‏ أي‏:‏ ما يسوء القلب وبحجبه عن مولاه، من أكدار وأغيار، وقوله‏:‏ ‏{‏ويجعلكم خلفاء الأرض‏}‏ أي‏:‏ تتصرفون في الوجود بأسره، بهمتكم، إن زال غم الحجاب عنكم، وشاهدتم ربكم بعين بصيرتكم وبصركم؛ لأن نور البصيرة إذا استولى على البصر، بعد فتح البصيرة، غطى نوره، فلا يرى البصر إلا ما تراه البصيرة؛ من أسرار الذات الأزلية القديمة‏.‏ فمن بلغ هذا المقام كان خليفة الله في أرضه، يُملكه الوجود بأسره وما ذلك على الله بعزيز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أمَّن يهديكم في ظلمات البَرِّ والبحر‏}‏ ليلاً، وبعلامات في الأرض نهاراً‏؟‏ أو‏:‏ أمّن يهديكم إلى سلوك الطريق التي تُوصلكم إلى مقصدكم، وأنتم في ظلمات الليل، سواء كنتم في البر أو البحر‏؟‏ فلا هادي إلى ذلك إلا الله تعالى‏.‏ ‏{‏ومن يُرسل الرياح‏}‏، أو بالإفراد‏.‏ ‏{‏نُشراً‏}‏ بالنون- أي‏:‏ تنشر السحاب إلى الموضع الذي أمر الله بإنزال المطر فيه، أو ‏{‏بُشرا‏}‏- بالباء- أي مبشرة بالمطر ‏{‏بين يدي رحمته‏}‏؛ قدَّام المطر علامة عليه، ‏{‏أإله مع الله‏}‏ يفعل ذلك‏؟‏ ‏{‏تعالى الله عما يُشركون‏}‏‏.‏ وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإشعار بعلِّية الحُكم، أي‏:‏ تعالى الله وتنزّه بذاته المنفردة بالألوهية، المقتضية لكون كل المخلوقات مقهوراً تحت قدرته، عن وجود ما يشركونه به تعالى‏.‏

الإشارة‏:‏ أمّن يهديكم إلى حل ما أشكل عليكم، وأظلمت منه قلوبكم، من علم بَر الشرائع‏.‏ وبحر الحقائق، فيهديكم في الأول إلى كشف الحق والصواب وفي الثاني إلى كشف الغطاء ورفع الحجاب، أو‏:‏ في الأول إلى علم البيان، وفي الثاني إلى عين العيان بالذوق والوجدان‏.‏ أو‏:‏ في الأول إلى علم اليقين، وفي الثاني إلى عين اليقين وحق اليقين‏.‏ ومَن يُرسل رياح الواردات الإلهية، بشارة بين يدي رحمته بالوصول إلى حضرته، وهو التوحيد الخاص‏.‏ ولذلك ختمه بقوله‏:‏ ‏{‏تعالى الله عما يُشركون‏}‏ من رؤية وجود السِّوى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 65‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏64‏)‏ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «من»‏:‏ إما فاعل بيعلم، و«الغيب»‏:‏ بدل منه، و«الله»‏:‏ مفعول، و«إلا الله»‏:‏ بدل على لغة تميم، أي‏:‏ إبدال المنقطع، وإما مفعول بيعلم، و«الغيب» بدل منه و‏(‏الله‏)‏‏:‏ فاعل، والاستثناء‏:‏ مفرغ‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أمّن يبدأُ الخلقَ‏}‏ أي‏:‏ ينشىء الخلق ‏{‏ثم يُعيده‏}‏ بعد الموت بالبعث‏.‏ وإنما قيل لهم‏:‏ ‏{‏ثم يُعيده‏}‏ وهم منكرون للإعادة؛ لأنهم أزيحتْ شبهتهم بالتمكن من المعرفة، والإقرار، فلم يبقَ لهم عذرٌ في الإنكار‏.‏ ‏{‏ومن يرزقكم من السماء‏}‏ بالمطر ‏{‏والأرض‏}‏ أي‏:‏ ومن الأرض بالنبات، أي‏:‏ يرزقكم بأسباب سماوية وأرضية، قد رتبها على ترتيب بديع، تقضيه الحكمة التي عليها بني أمر التكوين، ‏{‏أإله مع الله‏}‏ يفعل ذلك‏؟‏ ‏{‏قل هاتُوا بُرهانَكم‏}‏ أي‏:‏ حجتكم، عقلية أو نقلية، على إشراككم، ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ في دعواكم أن مع الله إلهاً آخر‏.‏

‏{‏قل لا يعلم مَنْ في السماوات والأرضِ الغيبَ إلا الله‏}‏، بعد ما حقق سبحانه انفراده بالألوهية، ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة والرحمة الشاملة عقَّب بذكر ما هو من لوازمه وهو اختصاصه بعلم الغيب، تكميلاً لما قبله، وتمهيداً لما بعده من أمر البعث‏.‏ قالت عائشة- رضي الله عنها-‏:‏ ‏(‏منْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَدْ أعْظَمَ عَلَى اللهِ الفِرْيةَ، والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيبَ إلا الله‏}‏‏)‏‏.‏

دخل على الحجاج مُنجِّم فأخذ الحجاج حصياتٍ، قد عدَّها فقال للمنجم‏:‏ كم في يدي‏؟‏ فحسب، فأصاب، ثم اغتفله الحجاجُ، فأخذ حصيات لم يعدها، فقال للمنجم‏:‏ كم في يدي‏؟‏ فحسب، فأخطأ، فقال‏:‏ أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها في يدك، فقال‏:‏ ما الفرق بينهما‏؟‏ فقال‏:‏ إن ذلك أحصيتَه فخرج من حَد الغيب فحسبتُ فأصبتُ وإن هذا لم تعرف عدته، فصار غيباً، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى‏.‏

ومن جملة الغيب‏:‏ قيام الساعة، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وما يشعرون أيّان يُبعثون‏}‏ أي‏:‏ متى ينتشرون من القبور، مع كونه مما لا بد لهم منه، ومن أهل الأمور عندهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الرزق ثلاثة‏:‏ رزق الأشباح، ورزق القلوب، ورزق الأرواح، فرزق الأشباح معلوم، ورزق القلوب‏:‏ اليقين والطمأنينة، ورزق الأرواح‏:‏ المشاهدة والمكالمة‏.‏ قُل من يرزق قلوبكم وأرواحكم من سماء غيب القدرة وأرض الحكمة‏؟‏ فلا رازق سواه، ولا برهان على وجود ما سواه، ولا يعلم الغيب إلا الله‏.‏ أو‏:‏ من كان وجوده بالله قد غاب في نور الله، فَشَهِدَ الغيب بالله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 68‏]‏

‏{‏بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ‏(‏66‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ‏(‏67‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قرأ الجمهور‏:‏ «ادّارَكَ» بالمد، وأصله‏:‏ تدارك، فأدغمت التاء في الدال، ودخلت همزة وصل‏.‏ وقرأ عاصم في رواية أبي بكر‏:‏ «ادّرك»، وأصله‏:‏ افتعل، بمعنى تفاعل‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ «أدرك» أفعل‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏بل ادّارك‏}‏ أي‏:‏ تدارك وتناهى وتتابع أسباب ‏{‏عِلْمُهم في الآخرة‏}‏ أي‏:‏ بالآخرة، أو‏:‏ في شأنها، بما ذكرنا لهم من البراهين القطعية، والحجج العقلية، على كمال قدرتنا‏.‏ ومع ذلك لم يحصل لهم بها يقين، ‏{‏بل هم في شكٍّ منها‏}‏، والمعنى‏:‏ أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكّنوا من معرفته بما تتابع لهم من الدلائل‏.‏ زمع ذلك لم يحصل لهم شيء من علمها، بل شكّوا‏.‏ أو‏:‏ أدرك علمهم، بمعنى‏:‏ يدركهم في الآخرة حين يرون الأمر عياناً، ولا ينفعهم ذلك‏.‏ قاله ابن عباس وغيره‏.‏ ‏{‏بل هم‏}‏ اليوم ‏{‏في شكٍّ منها بل هم منها عَمُونَ‏}‏ لا يُبصرون دلائلها، ولا يلتفتون إلى العمل لها‏.‏ والإضرابات الثلاثة تنزيل لأحوالهم، وتأكيد لجهلهم‏.‏ وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون بوقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة مع تتابع أسباب علمها، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية، ثم بما هو اسوأ حالاً، وهو العمى، وجعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه، فلذا عداه ب «من» دون «عن»؛ لأن الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي منعهم عن التفكر والتدبر‏.‏

ووجه اتصال مضمون هذه الآية- وهو وصف المشركين- بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة بما قبله، وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب، وأن العباد لا علم لهم بشيء بذلك‏:‏ هو أنه لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب، وكان هذا بياناً لعجزهم، ووصفاً لقصور علمهم، وصل به أن عندهم عجزاً أبلغ منه، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بد من كونه- وهو وقت بعثهم، ومجازاتهم على أعمالهم‏:‏ لا يكون، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه، لا محالة‏.‏ ه‏.‏ قاله النسفي‏.‏

‏{‏وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرَجُونَ‏}‏ أي‏:‏ أنُخرج من القبور أحياء إذا صرنا تراباً وآباؤنا‏.‏ وتكرير الاستفهام في «أئذا» و«أَئِنا» في قراءة عاصم، وحمزة؛ وخلف، إنكار بعد إنكار، وجحود بعد جحود، ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه‏.‏ والعامل في ‏(‏إذا‏)‏‏:‏ مادلّ عليه ‏{‏لمخرجون‏}‏ وهو‏:‏ نُخرج، لا مخرجون، لموانع كثيرة‏.‏ والضمير في «أئنا» لهم ولآبائهم‏.‏

‏{‏لقد وُعِدْنَا هذا‏}‏ البعث ‏{‏نحن وآباؤنا من قبلُ‏}‏؛ من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، قدّم هنا «هذا» على «نحن» وفي المؤمنون قدّم «نحن»؛ ليدل هنا أن المقصود بالذكر هو البعث وثمَّ المبعوث؛ لأن هنا تكررت أدلة البعث قبل هذا القول كثيراً، فاعتنى به بخلاف «ثم»‏.‏

ثم قالوا‏:‏ ‏{‏إنْ هذا إلا أساطيرُ الأولينَ‏}‏‏:‏ ما هذا إلا أحاديثهم وأكاذيبهم‏.‏ وقد كذبوا، ورب الكعبة‏.‏

الإشارة‏:‏ العلم بالآخرة يَقْوى بقوة العلم بالله، فكلما قوي اليقين في جانب الله قوي اليقين في جانب ما وعد الله به؛ من الأمور الغيبية، فأهل العلم بالله الحقيقي أمور الآخرة عندهم نُصب أعينهم، واقعة في نظرهم؛ لقوة يقينهم‏.‏ وانظر إلى قول حارثة رضي الله عنه حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما حقيقة إيمانك‏؟‏» فقال‏:‏ يا رسول الله؛ عزَفَتُ الدنيا من قلبي، فاستوى عندي وذهبا ومدرها‏.‏ ثم قال‏:‏ وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وأهل النار يتعاوون فيها، فقال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قد عرفت فالزمْ، عبدٌ نوّر الله قلبَه» اللهم نَوِّر قلوبنا بأنوار معرفتك الكاملة، حتى نلقاك على عين اليقين وحق اليقين‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 73‏]‏

‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏69‏)‏ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏71‏)‏ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏سيروا في الأرض فانظر كيف كانت عاقبةُ المجرمين‏}‏ بسبب تكذيبهم للرسل- عليهم السلام- فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله- عز وجل- وحده، واليوم الآخر، الذي ينكرونه، فإن في مشاهدة عاقبتهم ما فيه كفاية لأولي البصائر‏.‏ وفي التعبير عن المكذبين بالمجرمين، لطف بالمسلمين، بترك الجرائم، وحث لهم على الفرار منها، كقوله‏:‏ ‏{‏فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 14‏]‏ و‏{‏مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 25‏]‏‏.‏

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ولا تحزنْ عليهم‏}‏ أي‏:‏ لأجل أنهم لم يتبعوك، ولم يُسْلِموا فَيَسْلَمُوا‏.‏ ‏{‏ولا تكن في ضَيْقٍ‏}‏؛ في حرج صدر ‏{‏مما يمكرون‏}‏؛ من مكرهم وكيدهم، أي‏:‏ فإن الله يعصمك من الناس‏.‏ يقال‏:‏ ضاق ضيقاً- بالفتح والكسر‏.‏

‏{‏ويقولون متى هذا الوعدُ‏}‏ أي‏:‏ وعد العذاب التي تعدنا، إن كنت من الصادقين في إخبارك بإتيانه على من كذّب‏.‏ والجملة باعتبار شركة المؤمنين في الإخبار بذلك‏.‏ ‏{‏قل عسى أن يكون رَدِفَ لكم بعضُ الذي تستعجلون‏}‏ أي‏:‏ تبعكم ولحقكم‏.‏ استعجلوا العذاب، فقيل لهم‏:‏ عسى أن يكون رَدِفَ، أي‏:‏ قرب لكم بعضه‏.‏ وهو عذاب يوم بدر، واللام زائدة للتأكيد‏.‏ أو‏:‏ ضمّن الفعل معنى يتعدّى باللام، نحو‏:‏ دنا لكم، أو‏:‏ أزف لكم‏.‏ وعسى ولعل وسوف، في وعد الملوك ووعيدهم، يدل على صدق الأمر، وجدّه، وعلى ذلك جرى وعد الله، ووعيده‏.‏

‏{‏وإن ربك لذُو فضلٍ على الناس‏}‏ أي‏:‏ إفضال وإنعام على كافة الناس‏.‏ ومن جملة إنعامه‏:‏ تأخير العقوبة عن هؤلاء، بعد استعجالهم لها، ‏{‏ولكنَّ أكثرهم لا يشكرون‏}‏ أي‏:‏ أكثرهم لا يعرفون حق النعمة، ولا يشكرونها، فيستعجلون بجهلهم وقوع العذاب، كدأب هؤلاء‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ التفكر والاعتبار من أفضل عبادة الأبرار، ساعة منه أفضل من عبادة سبعين سنة‏.‏ ومن أجلّ ما يتفكر فيه الإنسان‏:‏ ما جرى على أهل الغفلة والبطالة والعصيان، من تجرع كأس الحِمام، قبل النزوع والإقلاع عن الإجرام، فندموا حيث لم ينفع الندم، وقد زلَّت بهم القدم، فلا ما كانوا أمَّلوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم من الأعمال الصالحات رجعوا‏.‏ فليعتبر الإنسان بحالتهم، لئلا يجري عليه ما جرى عليهم، وليبادر بالتوبة إلى ربه، وليشهد يده على أوقات عمره، قبل أن تنقضي في البطالة والتقصير، فيمضي عمره سبهللاً‏.‏ ولله در القائل‏:‏

السِّبَاق السِّبَاقَ قَوْلاً وَفِعْلاً *** حَذِّرِ النَّفْسَ حَسْرةً المسْبُوقِ

قال أبو على الدقاق رضي الله عنه‏:‏ رؤي بعضهم مجتهداً، فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ ومن أولى مني بالجهد، وأنا أطمع أن ألحق الأبرار الكبار من السلف‏.‏ ه‏.‏ ويقال للواعظ أو للعارف، إذا رأى إدبار الناس عن الله، وإقبالهم على الهوى‏:‏ ‏{‏ولا تحزن عليهم‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏74‏)‏ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏75‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإن ربك لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ‏}‏ أي‏:‏ تخفي ‏{‏صُدورُهُم وما يُعلنون‏}‏ أي‏:‏ يُظهرون من القول‏.‏ وليس تأخير العذاب عنهم لخفاءَ حالِهم عليه، ولكن له وقت مقدار، فيمهلهم إليه‏.‏ أو‏:‏ إن ربك ليعلم ما يخفون وما يُعلنون من عداوتك ومكايدهم لك، وهو معاقبهم على ذلك بما يستحقونه‏.‏ وقرئ بفتح التاء، من‏:‏ كننت الشيء‏:‏ سترته‏.‏

‏{‏وما من غائبةٍ في السماء والأرض‏}‏ أي‏:‏ من خافية فيهما ‏{‏إلا في كتاب مبين‏}‏ في اللوح المحفوظ‏.‏ يُسمى الشيء الذي يخفى ويعيب غائبه وخافية‏.‏ والتاء فيهما كالتاء في العاقبة والعافية‏.‏ ونظائرهما، وهي أسماء غير صفات‏.‏ ويجوز أن يكونا صفتين، وتاؤهما للمبالغة، كالرواية‏.‏ كأنه قال‏:‏ وما من شيء شديد الغيوبة إلا وقد علمه الله، وأحاط به، وأثبته في اللوح المحفوظ‏.‏ ومن جملة ذلك‏:‏ تعجيل عقوبتهم، ولكن لكل شيء أجل معلوم، لا يتأخر عنه ولا يتقدم‏.‏ ولولا ذلك لعَجَّل لهم ما استعجلوه‏.‏ والمُبين‏:‏ الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة‏:‏ أو‏:‏ مبين لما فيه من تفاصيل المقدورات‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية حث على مراقبة العبد لمولاه، في سر وعلانيته، فلا يفعل ما يخل بالأدب مع العليم الخبير، ولا يجول بقلبه فيما يستحيي أن يظهره لغيره، إلا أن يكون خاطراً ماراً، لا ثبات له، فلا قدرة للعبد على دفعه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 81‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏76‏)‏ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ‏(‏79‏)‏ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏80‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إسرائيل‏}‏؛ يُبين لهم ‏{‏أكثرَ الذي هم فيه يختلفون‏}‏ من أمر الدين الذي اشتبه عليهم‏.‏ ومن جملة ما اختلفوا فيه‏:‏ المسيح، وتحزّبوا فيه أحزاباً، وركبوا متن العند والغلو في الإفراط والتفريط، ووقع بينهم المناكرة في أشياء، حتى لعن بعضُهم بعضاً‏.‏ وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه، لو أنصفوا وأخذوا به، وأسلموا‏.‏ يريد اليهود والنصارى، وإن كانت الآية خاصة باليهود‏.‏ ‏{‏وإنه‏}‏- أي‏:‏ القرآن ‏{‏لهُدىً ورحمةٌ للمؤمنين‏}‏ على الإطلاق، فيدخل فيهم من آمن من بني إسرائيل دخولاً أولياً‏.‏

‏{‏إنَّ ربك يقضي بينهم‏}‏ أي‏:‏ بين بني إسرائيل، أو‏:‏ بين من آمن بالقرآن ومن كفر به، ‏{‏بحُكْمِه‏}‏ أي‏:‏ بعدله؛ لأنه لا يحكم إلا بالعدل، فسمى المحكوم به حكماً‏.‏ أو‏:‏ بحكمته، ويدل على قراءة من قرأ «بِحِكَمه»‏:‏ جمع‏:‏ حِكمة؛ لأن أحكامه تعالى كلها حِكَم بديعة‏.‏ ‏{‏وهو العزيزُ‏}‏، فلا يُردّ حُكمه وقضاؤه، ‏{‏العَليمُ‏}‏ بجميع الأشياء، ومن جملتها‏:‏ من يقضي له ومن يقضي عليه‏.‏ أو‏:‏ العزيز في انتقامه من المبطلين، العليم بالفصل بين المختلفين‏.‏

‏{‏فتوكلْ على الله‏}‏، الفاء لترتيب ما قبله من ذكر شؤونه- عز وجل- فإنها موجبة للتوكل عليه، داعية إلى الأمر به، أي‏:‏ فتوكل على الله الذي هذا شأنه‏.‏ وهذه أوصافه، فإنه موجب لكل أحد يتوكل عليه، ويفوض جميع أموره إليه‏.‏ أو‏:‏ فتوكل على الله ولا تُبالي بأعدادء الدين‏.‏ ‏{‏إنك على الحق المبين‏}‏، تعليل للأمر بالتوكل بأنه الحق الأبلج، وهو الدين الواضح الذي لا يتطرقه شك ولا ريب‏.‏

وفيه تنبيه على أن أصحاب الحق حقيق بالوثوق بالله في نصرته‏.‏ وقد تضمنت الآية من أولها ثناء على القرآن، بنفي ما رموه من كون أساطير الأولين‏.‏ ثم وصفه بكونه هدى ورحمة للمؤمنين‏.‏ ثم توعد الرامين له بحُكمه عليهم بما يستحقونه، ثم أمره بالتوكل عليه في كفايته أمرهم ومكرهم‏.‏

ثم بيّن سبب طعنهم في القرآن، بأنهم ليس فيهم قابلية الإدراك؛ لكونهم موتى صماً، لا حياة لهم ولا سمعَ استبصار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنك لا تُسمع الموتى‏}‏، شُبِّهوا بالموتى لعدم تأثرهم بما يُتلى عليهم من القوارع والزواجر، ‏{‏ولا تُسمِع الصمَّ الدعاءَ‏}‏ أي‏:‏ الدعوة إلى أمر من الأمور ‏{‏إذا وَلَّوا مدبرين‏}‏ عنك‏.‏ وتقييد النفي بالإدبار؛ لتكميل التنبيه وتأكيد النفي، فإنهم مع صمَمهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي، مولون على أدبارهم‏.‏ ولا ريب أن الأصم لا يسمع الدعاء، مع كون الداعي بمقابلة صماخة، قريباً منه، فكيف إذا كان خلفه بعيداً منه‏؟‏‏.‏

‏{‏وما أنت بهادي العُمى عن ضلالتهم‏}‏ هدايةً موصلةً إلى المطلوب، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ‏}‏

‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏؛ فإن الاهتداء منوط بالصبر في الحس، وبالبصيرة في المعنى‏.‏ ومَن فقدهما لا يتصور منه اهتداء، و«عن» متعلق بهادي؛ باعتبار تضمنه معنى الصرف، وإيراد الجملة الاسمية للمبالغة في نفي الهداية‏.‏ ‏{‏إن تُسْمِعُ‏}‏ أي‏:‏ ما تُسمع سماعاً يجدي السامع وينفعه ‏{‏إلا من يؤمن بآياتنا‏}‏ أي‏:‏ من عَلِمَ الله أنهم يؤمنون بآياته‏.‏ ‏{‏فهم مسلمون‏}‏؛ مخلصون، من قوله‏:‏ ‏{‏بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 112‏]‏ أي‏:‏ جعله سالماً لله خالصاً‏.‏ جعلنا الله ممن أسلم بكليته إليه‏.‏ آمين‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا وقع الاختلاف في الأحكام الظاهرة، وهي ما يتعلق بالجوارح الظاهرة، رُجع فيه إلى الكتاب العزيز، أو السُنَّة المحمدية، أو الإجماع، أو القياس، وإن وقع الاختلاف في الأمور القلبية، وهي ما يتعلق بالعقائد التوحيدية، من طريق الأذواق أو العلوم، يُرجع فيه إلى أرباب القلوب الصافية، فإنه لا يتجلى فيها إلا ما هو حق وصواب‏.‏ فلا يمكن قلع عروق الشكوك والأوهام، والوساوس من القلوب المُسوسة، إلا بالرجوع إليهم وصحبتهم، ومن جمع بين الظاهر والباطن، رجع إليه في الأمرين معاً‏.‏

ذكر ابن الصباغ أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنه كان يُناظر جماعة من المعتزلة، ليردهم إلى الحق، فدخل عليه رجل من القراء، يُقال له‏:‏ أبو مروان، فسلَّم عليه، فقال له الشيخ‏:‏ اقرأ علينا آية من كتاب الله، فأجرى الله على لسانه، من غير قصد، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتوكل على الله إنك على الحق المبين‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون‏}‏ فتهلل وجه الشيخ، وقال‏:‏ ما بعد بيان الله من بيان، فتابوا واهتدوا إلى الحق، ورجعوا عن مذهبهم، وشفا الله قلوبهم من مرض الاعتزال‏.‏ فهذا شأن العارفين بالله، جعلهم الله شفاء من كل داء، لكن الأعمى والأصم لا يُبصر الداعي، ولا يَسمع المنادي‏.‏ ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنك لا تُسمع الموتى‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏:‏ قال الورتجبي‏:‏ الميت‏:‏ من ليس له استعداد لقبول المعرفة الحقيقية بغير الدلائل، والأصم‏:‏ من كان أذن قلبه مسدودة بغواشي القهر، ومن كان بهذه الصفة لا يقبل إلا ما يليق بطبعه وشهواته‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا وقع القولُ عليهم‏}‏ أي‏:‏ وقع مصداق القول الناطق بمجيء الساعة، بأن قَرُب إتيانها، وظهرت أشراطها، فأراد بالوقوع‏:‏ دنوه واقترابه، كقوله‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ رُوي أن ذلك حين ينقطع الخير، ولا يُؤمر بمعروف ولا يُنهى عن منكر، ولا يبقى منيب ولا تائب‏.‏ و«وقع»‏:‏ عبارة عن الثبوت واللزوم، وهذا بمنزلة‏:‏ ‏{‏حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 19‏]‏ أي‏:‏ وإذا انتجز وعد عذابهم التي تضمنه القول الأزلي، وأراد أن ينفذ في الكافرين سابق علمه لهم من العذاب، أخرج لهم دابة من الأرض‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إن الدابة، وطلوع الشمس من المغرب، من أول الأشراط»‏.‏

فلا ينبغي لهؤلاء الكفرة ترك الإيمان حيث ينفعهم، ويتطلبون وقوع الساعة الموعود بها، التي لا ينفع الإيمان لمن لم يكن آمن، مع ظهور مقدماتها، فضلاً عنها‏.‏ فإذا وقع الوعد وَسَمَت الدابة مَن لم يؤمن بِسمة الكفر، وكان ذلك طبعاً وختماً، فلا يقبل منه إيمان، ويقال له‏:‏ أيها الكافر لم تؤمن بالآيات غيباً، فلا يقبل منك بعد رؤيتها عيناً وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏أخرجنا لهم دابةً من الأرض‏}‏، وهي الجساسة، طولها ستون ذراعاً، لا يدركها طالبٌ، ولا يفوتها هاربٌ، لها أربع قوائم، وزغب، وريش، وجناحان‏.‏ وقيل‏:‏ لها رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، وقرن أيّل، وعنق نعامة، وصدر أسد، ولون نمر، وخاصرة هرّة، وذنب كبش، وخف بعير، وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً، تخرج من الصفا فتكلّمهم بالعربية فتقول ‏{‏أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون‏}‏ أي‏:‏ بخروجي؛ لأن خروجها من الآيات، وتقول‏:‏ ألا لعنة الله على الظالمين‏.‏

وفي حديث حذيفة رضي الله عنه‏:‏ «تأتي الدابة المؤمن، فتُسلم عليه، وتأتي الكافر فتخطه- أي تسمه- في وجهه»‏.‏ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «تَخْرُجُ الدَّابةُ مَعها خاتمُ سُليمانَ، وعَصا مُوسى، فتَجْلُو وَجْهَ المُؤمِن، وَتَخْتُم أنْفَ الكافِر بالخاتَم ختَّى أَنَّ أَهْلَ الحِواء مجْتَمِعُون فيقول‏:‏ هاها يا مُؤمْن ويقول‏:‏ هاها يا كافِرُ» وهي بعد نزول عيسى وطلوع الشمس من مغربها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ وإذا وقع القول على قوم بإسدال الحجاب، وإدامة غلق الباب، أخرج لهم جاهل بالله، يكلمهم بادعاء التربية، فيأخذون عنه، ويقتدون به‏.‏ قال في المباحث‏:‏

واعلم بأن عُصبة الجُهال *** بهائم في صور الرجال

فالجاهد بالله دابة في الأرض‏:‏ أنَّ الناس كانوا بآياتنا الدالة علينا- وهم العلماء بالله، أهل الشهود والعيان- لا يُوقنون بوجودهم، ولا يعرفون وجود الخصوصية عندهم‏.‏ فإذا أراد الله تعب عبد، وإبقاءه في غم الحجاب، ألقاه إلى شيخ جاهل بالله، أو‏:‏ إلى ميت يتخذه شيخاً، ويفنى محبته، فلا يرجى فلاحه في طريق الخصوصية، ما دام مقيداً به، فإن تركه واقتدى بالعارف الحي، فقد هيأه لرفع الحجاب‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 86‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏83‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏85‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «ماذا» تأتي على أوجه؛ أحَدُها‏:‏ أن تكون «ما»‏:‏ استفهاماً، و«ذا»‏:‏ إشارة نحو‏:‏ ماذا التواني‏.‏ الثاني‏:‏ أن تكون «ما»‏:‏ استفهاماً، و«ذا»‏:‏ موصولة، كقول لبيد‏:‏

ألا تَسْأَلانِ المرْءَ ماذا يُحاوِلُ‏؟‏ *** أَنَحْبٌ فَيُقْضَى، أَمْ ضَلالٌ وباطِلُ‏؟‏

الثالث‏:‏ «ماذا» كله‏:‏ استفهام على التركيب، كقولك‏:‏ لماذا جئت‏؟‏‏.‏ الرابع‏:‏ أن تكون «ماذا» كله‏:‏ اسم جنس بمعنى شيء أو‏:‏ بمعنى «الذي» كقوله‏:‏ دعني ماذا علمت‏؟‏، وتكون «ذا» زائدة‏.‏ انظر القاموس‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏يوم نحشُرُ من كل إمةٍ فوجاً‏}‏، الفوج، الجماعة الكثيرة‏.‏ و«مِنْ»‏:‏ للتبعيض، أي‏:‏ واذكر يوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة ‏{‏ممن يُكَذِبُ بآياتنا‏}‏، «مِن»‏:‏ لبيان الفوج، أي‏:‏ فوجاً مكذبين بآياتنا، المنزلة على أنبيائنا، ‏{‏فهم يُوزَعُون‏}‏‏:‏ يُحبس أولهم على آخرهم، حتى يجتمعوا، حين يُساقون إلى موضع الحساب‏.‏ وهذه عبارة عن كثرة العدد، وتباعد أطرافهم، والمراد بهذا الحشر‏:‏ الحشر للعذاب، والتوبيخ والمناقشة، بعد الحشر الكلي، الشامل لكافة الخلق‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ ‏(‏المراد بهذا الفوج‏:‏ أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة، يُساقون بين يدي أهل مكة‏)‏ وهكذا يُحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار‏.‏

‏{‏حتى إِذا جاؤوا‏}‏ إلى موقف السؤال والجواب، والمناقشة والحساب، ‏{‏قال‏}‏ أي‏:‏ الله عز وجل، موبخاً لهم على التكذيب‏:‏ ‏{‏أَكَذَّبتم بآياتي‏}‏ المنزلة على رسلي، الناطقة بلقاء يومكم، ‏{‏و‏}‏ الحال أنكم ‏{‏لم تُحيطوا بها علماً‏}‏ أي‏:‏ أكذبتم بها في بادئ الرأي، من غير فكر، ولا نظر، يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق حتماً‏.‏ وهذا نص في أن المراد بالآيات في الموضعين هي الآيات القرآنية‏.‏ وقيل‏:‏ هو عطف على «كذبتم»، أي‏:‏ أجمعتم بين التكذيب وعدم التدبر فيها‏.‏ ‏{‏أم ماذا كنتم تعملون‏}‏ ‏؟‏ حيث لم تتفكروا فيها، فإنكم لم تُخلقوا عبثاً‏.‏ أو‏:‏ أيُّ شيء كنتم تعملون، استفهام، على معنى استبعاد الحجج، أي‏:‏ إن كانت لكم حجة وعمل فهاتوا ذلك‏.‏ وخطابهم بهذا تبكيت لهم‏.‏ ثم يُكبون في النار، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووقع القولُ عليهم‏}‏ أي‏:‏ حلَّ بهم العذاب، الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله ونزوله، ‏{‏بما ظَلموا‏}‏‏:‏ بسبب ظلمهم، الذي هو تكذيبهم بآيات الله ‏{‏فهم لا ينطقون‏}‏؛ لانقطاعهم عن الجواب بالكلية، وابتلائهم بشغل شاغل من العذاب الأليم، يشغلهم العذاب عن النطق والاعتذار‏.‏

ثم ذكر دلائل قدرته على البعث، وما ينشأ بعد ذلك، بقوله‏:‏ ‏{‏ألم يروا أنَّا جعلنا الليلَ ليَسكُنوا فيه‏}‏، الرؤية هنا قلبية، أي‏:‏ ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الإظلام ليستريحوا فيه بالنوم والقرار‏.‏

‏{‏والنهارَ مبصراً‏}‏ أي‏:‏ يُبصروا، بما فيه من الإضاءة، طرق التقلب في أمور المعاش‏.‏ وبولغ فيه، حيث جعل الإبصار الذي هو حال الناس، حالاً له، ووصفاً من أوصافه، بحيث لا ينفك عنها، ولم يسلك في الليل هذا المسلك؛ لأن تأثير ظلام الليل في السكون ليس بمثابة تأثير النهار في الإبصار‏.‏ قاله أبو السعود‏.‏ قلت‏:‏ وقد جعله كذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ الليل سَكَناً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏ فانظره‏.‏

‏{‏إنَّ في ذلك لآياتٍ‏}‏ كثيرة ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏؛ يُصدِّقون، فيعتبرون، فإنَّ من تأمل في تعاقب الليل والنهار، واختلافهما على وجوه بديعة، مبنية على حِكَمٍ رائقة، تحار في فهمها العقول، وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل، المحاكية للموت، بضياء النهار، المضاهي للحياة، وعاين في نفسه غلبة النوم، الذي هو يضاهي الموت، وانتباهه منه، الذي هو يضاهي البعث، قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور‏.‏

قال لقمان لابنه‏:‏ يا بُني إن كنت تشك في الموت فلا تنم، فكما أنك تنام قهراً؛ كذلك تموت، وإن كنت تشك في البعث فلا تنتبه، فكما أنك تنتبه بعد نومك؛ كذلك تُبعث بعد موتك ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ يوم نَحشر من كل أمة فوجاً يُنكر على أهل الخصوصية، ممن يكذب بآياتنا، وهم العارفون بنا، الدالون علينا، المعرِّفون بنا، فهم يُوزعون‏:‏ يُجمعون للعتاب، حتى إذا جاؤوا إلينا بقلب سقيم، قال‏:‏ أكذَّبتم بأوليائي، الدالين على حضرتي، بعد التطهير والتهذيب، ولم تُحيطوا بهم علماً، منعكم من ذلك حب الرئاسة والجاه، أم ماذا كنتم تعملون‏؟‏‏.‏ ووقع القول عليهم بالبقاء مع عامة أهل الحجاب، فهم لا ينطقون، ولا يجدون اعتذاراً يُقبل منهم‏.‏ ألم يعلموا أنهم يموتون على ما عاشوا عليه، ويُبعثون على ما ماتوا عليه، فهلاّ صحبوا أهل اليقين الكبير،- وهو عين اليقين أو حق اليقين المستفاد من شهود الذات الأقدس- فيكتسبوا منهم اليقين، حتى يموتوا على اليقين ويُبعثوا على اليقين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 90‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ‏(‏87‏)‏ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ‏(‏88‏)‏ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ‏(‏89‏)‏ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏يومَ يُنفَخُ فِي الصُّور‏}‏، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل- عليه السلام- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لما فرغ الله تعالى من خلق السموات والأرض، خلق الصور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه، شاخص بصره إلى العرش، حتى يؤمر، قال‏:‏ قلت‏:‏ كيف هو‏؟‏ قال‏:‏ عظيم، والذي نفسي بيده إن أعظم دارة فيه كعرض السموات والأرض» وفي حديث آخر‏:‏ «فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة، فيأمر بالنفخ فيه، فينخ نفخة، لا يبقى عندها في الحياة أحد، غير من شاء الله تعالى؛ وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏، ثم يؤمر بأخرى، فينخ نفخة لا يبقى معها ميت إلا بُعث» وفي رواية‏:‏ «فينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح، كأنها النحل، فتملأ ما بين السماء والأرض، وتأتي كل روح إلى جسدها، كما تأتي النحل إلى وكرها‏.‏ وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏»‏.‏

قال أبو السعود‏:‏ والذي يستدعيه النظم الكريم أن المراد بالنفخ ها هنا‏:‏ النفخة الثانية، وفي الفزع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ففزع من في السماوات ومن في الأرض‏}‏ ما يعتري الكل عند البعث والنشور، بمشاهدة الأمور الهائلة، الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق، من الرعب والتهيب، الضروريين، الجبلين في كل نفس‏.‏ وإيراد صيغة الماضي مع كون المعطوف عليه مضارعاً؛ للدلالة على تحقيق وقوعه‏.‏ ه‏.‏ وظاهره أن النفخ مرتان فقط، واعتمده القرطبي وغيره، وصحح ابن عطية أنها ثلاث، ورُوي ذلك عن أبي هريرة‏:‏ نفخة الفزع؛ وهي فزع حياة الدنيا، وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا من شاء الله‏}‏ أي‏:‏ ألاَّ يفزع، وهو من ثبّت الله قلبه، فإن قلنا‏:‏ المراد بها النفخة الثانية، فالمستثنى‏:‏ هم من سبقت لهم الحسنى، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏ وإن قلنا‏:‏ هي نفخة الصعق، فالمستثنى‏:‏ قيل‏:‏ هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، لكن يموتون بعد صعق الخلق‏.‏ وقيل‏:‏ الحور وحَملةُ العرش، وإن قلنا‏:‏ المراد نفخة الفزع في الدنيا، فالمستثنى‏:‏ أرواح الأنبياء والأولياء والشهداء والملائكة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكلٌّ أَتَوْهُ‏}‏ بصيغة الماضي، أي‏:‏ وكل واحد من المبعوثين عند النفخة حضروه في موقف الحساب، بين يدي الله جل جلاله، والسؤال والجواب‏:‏ أو‏:‏ وكل حاضروه، على قراءة إسم الفاعل، وأصله‏:‏ آتيوه، حال كونهم ‏{‏داخرين‏}‏‏:‏ صاغرين أذلاء‏.‏

‏{‏وترى الجبالَ‏}‏ حال الدنيا ‏{‏تحسبُها جامدةً‏}‏؛ واقفة ممسّكة عن الحركة، من‏:‏ جمد في مكانه‏:‏ إذا لم يبرح‏.‏

‏{‏وهي تمرُّ مرَّ السحابِ‏}‏ أي‏:‏ مراً مثل مر السحاب، التي تسيرها الرياح، سيراً حثيثاً، والمعنى‏:‏ أنك إذا رأيت الجبال وقت النفخة ظننتها ثابتة في مكان واحد؛ لِعظمها، وهي تسير سيراً سريعاً، كالحساب إذا ضربته الرياح، وهكذا الأجرام العظام، إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها‏.‏ ومثال ذلك‏:‏ الشمس؛ لعظم جرمها وبُعدها لا تتبين حركتها، مع كونها أسرع من الريح‏.‏

والذي في حديث أبي هريرة‏:‏ أنَّ تسيير الجبال يكون بعد نفخة الفزع وقبل الصعق‏.‏

ونص الحديث- بعد كلام تقدم‏:‏ «فيأمر إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول‏:‏ انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات والأرض، إلا من شاء الله، فيأمره فيمدها- أي‏:‏ النفخة- ويطيلها، فيُسير الله الجبالا، فتمر مر السحاب، فتكون سراباً، وتَرْتج الأرض بأهلها رجاً، فتكون كالسفينة تضربها الأمواج، وتقلبها الرياح وهو في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 6‏]‏ الآية، فتميد الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين، هاربة من الفزع، حتى تأتي الأقطار هاربة، فتلقاها الملائكة تضرب وجهها وأدبارها، فترجع، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بعضاً، وهو قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ التناد يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 33‏]‏ الآية فبينما هم كذلك؛ إذ تصدعت الأرض، من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً، لم يروا مثله» ثم قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «والأموات يومئذٍ لا يعلمون بشيء من ذلك» قال أبو هريرة‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله فمن استثنى الله من الفزع‏؟‏ قال‏:‏ «أولئك الشهداء»‏.‏

قلت‏:‏ ومثلهم الأنبياء والأولياء؛ إذ هم أعظم منهم، وأحياء مثلهم‏.‏ ثم قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، وهم أحياء عند ربهم يُرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم، وهو عذاب يبعثه الله على شرار خلقه»‏.‏ وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 2‏]‏ فيمكثون طويلاً، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل، فينفخ نفخة الصعق، فيصعق من في السموات، ومن في الأرض، إلا من شاء الله، فإذا اجتمعوا في البرزخ، جاء ملك الموت إلى الجبار، فيقول‏:‏ قد مات أهلُ السموات والأرض، إلا من شاء الله، فإذا اجتمعوا في البرزخ جاء ملك الموت إلى الجبار فيقول‏:‏ قد مات أهل السموات والأرض إلا من شئتَ فيقول الله تعالى، وهو أعلم‏:‏ مَن بقي‏؟‏ فيقول‏:‏ بقيتَ أنت الحي القيوم، الذي لا تموت، وبقيت حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل، وإسرافيل وبقيتُ أنا، فيقول تعالى‏:‏ فليمتْ جبريل وميكائيل، فينطق الله العرش، فيقول‏:‏ أيّ رب يموت جبريل، وميكائيل‏!‏ فيقول‏:‏ اسكت، إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي، فيموتان‏.‏ ثم يأتي ملك الموتُ الجبارَ، فيقول‏:‏ أي رب قد مات جبريل وميكائيل، فيقول- وهو أعلم‏:‏ من بقي‏؟‏ بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت حملة العرش، وبقي إسرافيل، وبقيتُ أنا‏.‏

فيقول‏:‏ ليمتْ حملة العرش، فيموتون، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل، ثم يقول‏:‏ ليمت إسرافيل، فيموت، ثم يأتي ملك الموت فيقول‏:‏ يا رب؛ قد مات حملة عرشك، فيقول، وهو أعلم‏:‏ من بقي‏؟‏ فيقول‏:‏ بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا، فيقول‏:‏ أنت خلق من خلقي، خلقتك لِما رأيتَ، فمتْ، فيموت‏.‏ فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فكان آخراً، كما كان أولاً، طوى السماء طي السجل للكتاب، فيقول‏:‏ أنا الجبار، ‏{‏لِمن الملك اليوم‏}‏ ‏؟‏ فلا يجيبه أحد، ثم يقول تعالى‏:‏ ‏{‏لله الواحد القهار‏}‏ ثم تُبدل الأرض غير الأرض، والسموات يبسطها بسطاً، ثم يمدها مدّ الأديم العكاظي، لا ترى فيها عِوَجاً ولا أمتاً‏.‏

ثم قال‏:‏ ثم ينزل ماء من تحت العرش، كمني الرجل، ثم يأمر الله السحاب أن تمطر أربعين يوماً، حتى يكون فوقهم اثني عشر ذراعاً، ويأمر الله تعالى الأجساد أن تنبت كنبات البقل، حتى إذا تكاملت أجسادهم، كما كانت، قال الله تعالى‏:‏ ليحيَى حملة العرش، فيحيون، ثم يقول الله تعالى‏:‏ ليحيى جبريل وميكائيل وإسرافيل، فيحيون، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل، فيأخذ الصور فيضعه على فيه، ثم يدعو الله تعالى الأرواح، فيؤتى بها تتوهج أرواح المؤمنين نوراً، والأخرى ظلمة، فيقبضها، ثم يلقيها في الصور، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح، كأنها النحل، وقد ملأت ما بين السماء والأرض، فيقول تعالى‏:‏ لترجعن كل روح إلى جسدها، فتدخل الأرواح الخياشيم، ثم تمشي في الأجساد، مشي السم في اللديغ، ثم تنشق الأرض عنهم سراعاً، فأنا أول من تنشق عنه، فتخرجون منها إلى ربكم تنسلون، عراةً، حفاةً، غُرلاً، مهطعين إلى الداعي، فيقول الكافر‏:‏ هذا يوم عسير‏.‏ نقله الثعلبي‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏صُنعَ الله‏}‏، هو مصدر مؤكد لمضمون ما قبله، أي‏:‏ صَنَعَ الله ذلك صُنعاً، على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور، وما ترتب عليه جميعاً‏.‏ قصد به التنبيه على عِظَم شأن تلك الأفاعيل، وتهويل أمرها، والإيذان بأنها ليست بطريق الإخلال بنظم العالم، وإفساد أحوال الكائنات، من غير أن تدعو إليه داعية، بل هي من بدائع صنع الله تعالى، المبنية على أساس الحكمة، المستتبعة للغايات الجليلة، التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادئ الإبداع، على الوجه المتين، والنهج الرصين كما يعرب عنه قوله‏:‏ ‏{‏الذي أتقنَ كلَّ شيء‏}‏ أي‏:‏ أحكم خلقه وسوّاه، على ما تقتضيه الحكمة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه خبير بما تفعلون‏}‏‏:‏ تعليل لكون ما ذكر صنعاً محكماً له تعالى؛ لبيان أن علمه بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها، مما يدعو إلى إظهارها وبيان كيفياتها، على ما هي عليه من الحسن والسوء، وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من جاء بالحسنةِ فله خير منها‏}‏‏:‏ بيان لما أشير إليه بإحاطة علمه تعالى بأفعالهم من ترتيب أجزيتها عليها، أي‏:‏ من جاء من أولئك الذين أتوه بالحسنة فله خير منها، باعتبار أنه أضعفها بعشر، أو‏:‏ باعتبار دوامه وانقضائها، وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ «الحسنة‏:‏ كلمة الشهاة» ‏{‏وهم‏}‏ أي‏:‏ الذين جاؤوا بالحسنات ‏{‏من فزَعٍ يومئذ‏}‏ أي‏:‏ من فزع هائل، وهو الفزع الحاصل من مشاهدة العذاب، بعد تمام المحاسبة، وظهور الحسنات والسيئات‏.‏ وهو المراد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ حين يُذبح الموت ويُنادى‏:‏ يا أهل الجنة؛ خلود لا موت، ويا أهل النار؛ خلود لا موت‏.‏ فيكون هؤلاء ‏{‏من فزع يومئذٍ‏}‏، أي‏:‏ يوم إذ ينفخ في الصور وما بعده ‏{‏آمنون‏}‏ لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل، ولا يلحقهم ضرره أصلاً‏.‏ وأما الفزع الذي يعتري كل من السموات ومن في الأرض، غير ما استثناه اله تعالى، فإنما هو التهيب والرعب الحاصل في ابتداء النفخة، من معاينة فنون الدواهي والأهوال، ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة، وإن كان آمناً من لحوق الضرر‏.‏ قال جميعه أبو السعود‏.‏

‏{‏ومن جاء بالسيئة‏}‏ قيل‏:‏ هو الشرك‏.‏ ‏{‏فكُبَّتْ وجُوهُهُم في النار‏}‏، أي‏:‏ كُبوا فيها على وجوههم منكوسين‏.‏ ويقال لهم‏:‏ ‏{‏هل تُجزَون إلا ما كنتم تعملون‏}‏ في الدنيا من الشرك والمعاصي‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ من أراد أن يكون ممن استثنى الله من الفزع والهول، فليكن قلبه معموراً بالله، ليس فيه غير مولاه، ولا مقصود له في الدارين إلا الله، وظاهره معموراً بطاعة الله، متمسكاً بسنة رسول الله، هواه تابع لِما جاء من عند الله، لا شهوة له إلا ما يقضي عليه مولاه، فبهذا ينخرط في سلك أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين سبقت لهم الحسنى، لا يحزنهم الفزع الأكبر، وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون‏.‏ جعلنا الله من خواصهم، بمنِّه وكرمه آمين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وترى الجبالَ تحسَبها جامدةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ كذلك قلوب الراسخين في العلم بالله، لا تؤثر فيهم هواجم الأحوال والواردات الإلهية، بل تهزهم في الباطن، وظواهرهم ساكنة، كالجبال الراسية، قيل للجنيد‏:‏ قد كنت تتواجدُ عند السماع، والآن لا يتحرك فيك شيء‏؟‏ فتلى‏:‏ ‏{‏وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من جاء بالحسنة‏}‏ أي‏:‏ بالخصلة الحسنة، وهي المعرفة ‏{‏فله خير منها‏}‏ وهو دوام النظرة والحبرة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ‏{‏ومن جاء بالسيئة‏}‏ هي الجهل بالله، فينكس وجهه عن مواجهة المقربين‏.‏ والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 93‏]‏

‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏91‏)‏ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏92‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ قل لكفار قريش، بعد تبيين أحوال المبعث، وشرح أحوال القيامة، بما لا مزيد عليه‏:‏ ‏{‏إنما أُمرتُ أن أعبدَ ربَّ هذه البلدة‏}‏ أي‏:‏ مكة، أي‏:‏ إنما أمرني ربي أن أعبده، وأستغرق أوقاتي في مراقبته ومشاهدته، غير مبالٍ بكم، ضللتم أم رشِدتم، وما عليّ إلا البلاغ، وقد بلغتكم وأنذرتكم‏.‏ وتخصيص مكة بالإضافة لتفخيم شأنها وإجلال مكانها، ‏{‏الذي حَرَّمها‏}‏ أي‏:‏ جعلها حرماً آمناً، يأمن الملتجأ إليها، ولا يختلي خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا ينفّر صيدها‏.‏ والتعرض لبيان تحريمه إياها تشريف لها بعد تشريف، وتعظيم إثر تعظيم، مع مافيه من الإشعار بعلة الأمر بعبادة ربها، وأنهم مُكلفون بذلك، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏ ‏[‏قريش‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏ ومن الإشارة إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها، ألا يُرى أنهم مع كونها محرمة أن تنتهك حرمتها، ويلحد فيها بإثم، قد استمروا فيها على تعاطي أفجر الفجور، وأشنع الإلحاد، حيث تركوا عبادة ربها، ونصبوا الأوثان، وعكفوا على عبادتها، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون‏.‏ قاله أبو السعود‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وله كلُّ شيء‏}‏ خلقاً وملكاً وتصرفاً، من غير ان يشاركه أحد في شيء من ذلك، تحقيقاً للحق، وتنبيهاً على إن إفراد مكة بالإضافة لما ذكر من التفخيم والتشريف، مع عموم الربوبية لجميع الموجودات‏.‏ ‏{‏وأُمرتُ أن أكون من المسلمين‏}‏ المنقادين له، الثابتين على ما كنا عليه، من ملة الإسلام والتوحيد‏.‏ الذين أسلموا وجوهم له تعالى، وانقادوا إليه بالكلية‏.‏

‏{‏وإن أتلوَ القرآن‏}‏ أي‏:‏ أُواظب على تلاوته لتنكشف حقائقه الرائقة المخزونة في تضاعيفه شيئاً فشيئاً‏.‏ أو‏:‏ على تلاوته على الناس؛ بطريق تكرير الدعوة، وتثنية الإرشاد، فيكون ذلك تنبيهاً على كفايته في الهداية والإرشاد، من غير حاجة إلى إظهار معجزة أخرى‏.‏

‏{‏فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ أي‏:‏ فمن اهتدى بالإيمان به، والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام، فإنما منافع هدايته عائدة إليه، لا إلى غيره‏.‏ ‏{‏ومن ضلّ‏}‏ بالكفر به، والإعراض عن العمل بما فيه ‏{‏فقلْ‏}‏ في حقه‏:‏ ‏{‏إنما أنا من المنذرينَ‏}‏ وقد خرجتُ من عهدة الإنذار، فليس عليَّ من وبال ضلالته شيء‏.‏ قال الصفاقسي‏:‏ جواب «من»‏:‏ محذوف، يدل عليه ما قبله، أي‏:‏ فوبال ضلاله عليه، أو‏:‏ يكون الجواب‏:‏ «فقل»، ويقدر ضمير عائد من الجواب إلى الشرط؛ لأنه اسم غير ظرف، أي‏:‏ من المنذرين له‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وقل الحمدُ لله‏}‏ على ما أفاض عليّ من نعمائه، التي أجلُها نعمة النبوة، المستتبعة لفنون النعم الدينية والدنيوية، ووفقني لتحمل أعبائها، وتبليغ أحكامها إلى كافة الورى، بالآيات البينة والبراهين النيرة، ‏{‏سيُريكُم آياته‏}‏ قطعاً في الدنيا، التي وعدكم بها، كخروج الدابة وسائر الأشراط، ‏{‏فتعرفونها‏}‏ أي‏:‏ فتعرفون أنها آيات الله، حين لا تنفعكم المعرفة، أو‏:‏ سيضطركم إلى معرفة آياته، والإقرار بأنها آيات الله حين ظهورها، ‏{‏وما ربك بغافل عما تعملون‏}‏، بل محيط بعمل المهتدي والضال، غير غافل، فيجازي كلاًّ بما يستحقه‏.‏

وتخصيص الخطاب أولاً به- عليه الصلاة والسلام- وتعميمه ثانياً للكفرة تغليباً، أي‏:‏ وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم- أيها الكفرة- من السيئات، فيجازي كلاً بعمله‏.‏ ومن قرأ بالغيب فهو وعيد محض، أي‏:‏ وما ربك بغافل عن أعمالهم، فسيعذبهم ألبتة، فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى عن أعمالهم، بل يمهل ولا يهمل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا فرغ الواعظ من وعظه وتذكيره، أو‏:‏ العالم من تدريسه وتعليمه، أقبل على عبادة ربه، إما عبادة الجوارح الظاهرة، من صلاة وذكر وتلاوة، أو عبادة القلوب، كتفكر واعتبار، أو استخراج علوم وحكم ودُرر‏.‏ وإما عبادة الأرواح، كنظرة وفكرة وشهود واستبصار‏.‏ وهذه عبادة الفحول من الرجال، فمن اهتدى إليها فلنفسه، ومن ضل عنها فقل إنما أنا من المنذرين‏.‏ والحمد لله رب العالمين- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً‏.‏